التخطي إلى المحتوى الرئيسي

٢٩ I الغابة

29 "الغابة" وقفت   متسمرة مكاني لدقائق عاجزة عن الكلام، أحدق بظهر أليكساندر والصمت حليفنا. حتى تحرك فجأة صوب الحمام المفتوح وهو يخلع قميصه. توسعت عيناي على ظهره العاري ولكنه توجه للحوض وعيناه علي من خلال المرآة وبدأ يمسح بعنف على صدره. “ ماذا تفعل؟ ”   بدلاً من أن يجيب هو استمر بالفرك في عدة أماكن مختلفة بقميصه ثم استدار. لم أكن مستعدة لما قابلني، وعندما أغلق الصنبور وخطا لي تراجعت للوراء. “ ولآخرة مرة سأقولها، ديانا آركان، وهو أنكِ الوحيدة التي لا تملك ما تخسره. ولذلك نحن لا نساعدك ولا نجيبك ونتظاهر بالجهل. لقد  سئمت. ”   استطرد واستمر بالتقدم وصدره المشوه يحدق بي. كان يختاجلني شعور غريب لم أفهمه وأنا لا أستطيع رفع بصري عن الحروق والكدمات التي ملأت أركاناً كثيرة من جسده. “ سئمت منهم ومن التنقيب عن الأسرار والأهم من ذلك سئمت من نفسي. هم يتحكمون بي وكأنني دمية معلقة بخيوط وأنا أشعر بأني محاصر. أنتِ لا تودين العبور لناحيتنا. ” تجاهلت جملته الأخيرة. “ إنهم يهددونك بنقطة ضعفك. ” ابتسم ابتسامة ساخرة ولكن بائسة. “ والمثير للضحك في الأمر أنني نفسي لم أكتشف ما هي نقطة ضعفي س...

٢٤ I السّمير



(٢٤)

"السّمير: من يحدثك ليلاً"



في فجر اليوم الثاني اختفت إحدى طالبات الأكاديمية. كانت طالبة رسم تدعى سمارا أفشت عن شئ رأته في قاعة آروز لصديقتها وقبل أن تنتشر تلك المعلومة كانت قد اختفت. حيث استيقظ الجميع صباح اليوم التالي ولم تكن موجودة بغرفتها التي تم إخلاؤها من جميع ممتلكاتها. حتى اسمها وانجازاتها وتاريخها منذ التحاقها بالأكاديمية كان قد اختفى من كل شئ بحلول الظهيرة. لقد شاهدنا الأساتذة يزيلون اسمها وترتيباتها من جدران الشرف في صمت تام. لقد تخلصوا من تلك الفتاة وكأنه لم يكن لها وجود من الأساس.

لقد كان درساً وتحذيراً...لنا نحن الطلاب بألا نسأل، ولطلاب الأوميرتا -هكذا أشرنا لهم- ألا يجيبوا.

وقفتُ والظلال تحتضني في أقصى ردهة مهجع الرسم أشاهد العامل يزيل رسوماتها من على جدران بابها بينما كل آن يتوقف طالب في ذهول مما يحدث ثم يستكمل خطواته وكأنه لم ير شيئاً. كنتُ في ذهول من هؤلاء البشر... أليسوا هم زملائها الذين شاركوها العروض والمسابقات والسنوات؟ كيف لهم أن يستكملوا يومهم وكأن واحدة منهم لم تسقط؟ حتى صديقتها لم تنطق بكلمة طوال اليوم أو تقم بشئ. صباح اليوم لمحت عينيها الحمراوتين ولكن عدا عن ذلك كان الناس تتفاداها وكأنها وباء...حتى سمعنا إعلان استدعائها لقاعة آروز في منتصف اليوم.

أذكر تصنمي لحظتها وأنا لا أصدق هذه الأكاديمية. لقد استبدلوا صديقتها بها.

الأوميرتا هو كود بين أعضاء المافيا ينصّ على إلتزام الصمت. ويعني أن تترجّل ولا تفش للسلطات عما يحدث داخل العصابة.

ذلك اليوم وصلت جرايس لتمارين الرقص مصابة بحمى بسبب الوشم الذي اشتكى من ألمه وأعراضه الجانبية معظم الطلاب. كنت أشاهدها من مكاني جوار أخصائية العلاج الطبيعي وهي ترقص أثناء ما كنت أفكر...للآن ما لاحظته هو أن تلك المجموعة أو طلاب الأوميرتا كان لها نمط. طالبان من كل موهبة وليس أكثر ولا أقل. ومع رحيل سمارا تم استبدالها بصديقتها الرسامة ليكتمل النمط من جديد.

لم يبدُ أحداً مهتماً بقاعة آروز وما داخلها بعد ذلك بل ولم يجرؤ أحد حتى على ذكر ما حدث مع سمارا. أكثر ما أثار تساؤلي هو لما لم يختاروا أي طالب من الهرم.. لماذا طلاب ليسوا بالضرورة الأمهر في مواهبهم لكن لا يجمع بينهم أي تشابه؟ على أي أساس تم اختيارهم ومن أجل ماذا؟

كان هنالك جو من الغمام يحوم فوق طلبة الرسم والصمت رفيقنا ونحن نشاهد العامل ينتقل لتصميمها الذي حُفر في لحائط العام بمهجع الرسم الذي يحوي كل بصمة من رسام ارتاد الأكاديمية قط. نسمعه يدقدق في الحائط يخفي آخر أثر لمارا حتى أزال آخرشئ يثبت وجودها بالمكان: توقيعها
ترك العامل الحائط بعد انتهاؤه وغادر المهجع دون أن يلتفت لأي طالب وكأنه سراب أتى ليقوم بمهمة لا يجدر بأحد الاطلاع عليها. كانت في تلك اللحظة أن شعرت بظل آخر يقف فوقي ولم أحتج أن أنظر لأعرف لمن ينتمي...فلا أحد غيره في هذا المهجع قد يكلمني في وقت كهذا.

"لقد جعلني هذا أفكر،" لم أرفع بصري عن الحفرة في الحائط وأنا أبدأ حديثي: "هذا بالضبط ما حدث مع زيريلدا، أليس كذلك؟"

إجابته جائت على هيئة الصمت لتعتلي شفتي ابتسامة ساخطة. "أهذا هو تقديرنا الذي نتلقاه؟ أخبرني آجاكس..." التفت وقابلت بصره الأزرق الهادئ. "هل ستنسونني بتلك السهولة حينما أغادر؟"

"تبدين متأكدة من مغادرتك لدرجة كبيرة. أهذا ما تودين؟" أمال رأسه قليلاً وهو يحاول قراءة ملامحي لكنني كنت قد أخفيتها ساعات قبل أن أقابله وأنا أشاهد في الصفوف طريقة ازالتهم لتاريخ سمارا طوال اليوم. "لقد ظننت حلمكِ ارتياد الأكاديمية كما الآخرون هنا."

"أنت تعلم أنها مسألة وقت حتى أقابل نفس النهاية."

صمته هذه المرة كان أطول، حتى شعرت به يقترب أكثر حتى غلفتني حرارة جسده لأتجمد. "ولما لا تصبح البداية؟"
رفعت حاسوبي لصدري بيدي السليمة وقابلت اتجاه باب المهجع قبل أن أعطيه نظرة أخيرة وأنا أستعد للرحيل: "لا تقف في طريقي إذاً، آجاكس."

لم يكن حتى وصلت غرفتي بعد يوم طويل ومتعب وقبل إغلاقي الباب خلفي أن اندفعت يد توقفه. اقتحم شعرجرايس الرمادي مساحتي الشخصية وهي تسبقني لداخل الغرفة. استدارت والغضب يتطاير من عيناها وأشارت لي بأن أغلق الباب خلفي. في حيرة من تواجدها المفاجئ بعد أن تفادتني طوال اليوم أغلقت الباب بعد أن خطوت للداخل، ولم أكد أسمع صوت تكة إغلاقه خلفي أن هوت يدها على خدي.

في صدمة، أمسكت بخدي المتألم ونظرت إليها. عندما وجدتها على وشك صفعي مجدداً هبطت ملامحي وتحولت للبرود. أسقطت يدي عن وجهي وأمسكت بمعصمها قبل أن يلتحم كفهّا مع وجنتي. أملت رأسي وطالعتها في صمت وأعين خالية بينما هي تحاول تخليص يدها مني. لقد كانت غاضبة وتتنفس بسرعة، لكن تحت ذلك الغضب كان يوجد الخوف. جرايس كانت خائفة وأيضاً متعبة—مما بدا من شعرها الرمادي الملتصق بجبينها وجفلتها من الحين للآخر تألُّماً من جرح الوشم—.


"أرى أنكِ عرفتي من أكون."

سحبت معصمها من قبضتي في ثورة وتراجعَت للوراء. "أهذا أول ما تقولينه لي بعد أن وثقتُ بكِ؟ كيف أمكنكِ الكذب علينا؟" ابتعدت عني ودارت قليلاً قبل العودة إلي. " يالكِ من مخادعة! وأنا التي كنت أساعدك ظناً أنكِ فتاة مسكينة تريد فقط النجاح وأخذ لقب الملكة حتى تثبتي تفوقك! يالكِ من شخص حقير وخسيس ي—"

في ثانية أصبحت أمامها وأطبقت على فمها بكف يدي في قوة. دفعتها للسرير لنسقط كلانا—هي على ظهرها تشاهدني بأعين واسعة وأنا فوقها. أعطيتها نظرة حادة. "أخفضي صوتك إن كنتِ لا تريدين تلقّي نفس قدر فتاة الأوميرتا."

مزيج من الغضب مع الخيانة عبر مقلتا عيناها قبل أن تدفعني بعيداً عنها لأنهض ثم أتنهد. أما جرايس فقد اعتدلت حتى جلست على حافة السرير. هذه المرة كانت حريصة على إبقاء صوتها منخفضاً وهي تبصق في وجهي: "يالي من ساذجة بحق. طيلة هذا الوقت وأنا أظنكِ طالبة فقيرة وأشفق عليكِ من وحشة معاملة الطلاب الأغنياء لكِ هنا خصوصاً الهرم، لكنها كانت كذبة. أنت غنية بقدرهم إن لم يكن أكثر!"

"كُنت." صححتها في هدوء لتتجمد لحظة وكأنها تتذكر لماذا لم أعد كذلك، وعندما بدأتُ ألحظ نظرة الشفقة تظهر في عيناها أشحت بصري بعيداً في إشمئزاز. "أعطيني غضبكِ، ثندر فهذا يناسبني أكثر. نحن لسنا أصدقاء فلا تظني عكس ذلك."

مرت لحظة من الصمت بيننا حتى تناهى إلى مسامعي صوت إستدراكها: "لهذا يقوم بحمايتك إذاً. لا بد أنه يعرفك أو كان يعرف والدك."

ذهبت رأسي نحوها في سرعة شديدة لأراها تبسط شفتيها وكأنها لم تقصد الإفصاح عن أفكارها لكن قد فات الأوان. "لماذا أنتِ هنا، ثندر؟ لا أظن أنه لصبّ إحباطك فيّ والصراخ بشأن خيانتي لك. أنا لا أدين لكِ بشئ حتى أطلعكِ على أسراري."

"لقد كان لدي أمل كبير فيكِ، ديانا." همست جرايس وهي تطالعني بنظرة حزينة قبل أن تخفيها لكني كنتُ قد رأيتها وانتهى الأمر. قبضت فكي. "لا تصبحي مثلهم رجاءً."

أغلقت أصابعي جوار طرف سترتي وهي همست مجدداً: "ولا تصبحي واحدة منهم."

"لا أذكر متى بدأت أتلقى الأوامر منكِ."

"توقفي! توقفي عن فعل ذلك لأنه لن ينطلي عليّ بعد الآن!" صاحت وهي تنهض في غضب، تقف أمامي في نفس طولي وتناظرني بكل حَسم. شعرها الرمادي كان مرفوعاً في ذيل حصان فوق رأسها ولكن لاحظت أن جذور شعرها كانت شقراء. لسبب ما هي لم تقم بصبغها هذه المرة. "أفهم لما تقومين بهذا لكني لن أتركك لوحدك، ديانا. يمكنكِ صدي أنا ويارا ولكن هذا لن يغيّر كوننا أصدقاء سواء اعترفتي بهذا أم لا. فقط..."

انقطب حاجباي في حيرة وهنا كان دورها لتفادى النظر لي. تملّكها توترغير معتاد وهي ترمّق أرجاء الغرفة.

"جرايس؟"

"عديني،" قالت بسرعة قبل أن أنهي سؤالي. قفز حاجباي في ذهول من طلبها وهي أطلقت نفساً قلقاً قبل أن تضع يدها فوق ذراعها حيث يوجد وشمها تحت زيّها المدرسي. رفعت رأسها أخيراً وحدجتني بنظرة لم أعهدها على جرايس من قبل. الإضطراب. "عديني يا ديانا أنه لن يحصل لي أي شئ."

"بم تتفوهين؟" أخفضت صوتي أكثر واقتربت منها حتى أصبحت أمامها مباشرة، لأنه من توترها واضح أنها محادثة لا يجدر بأحد سماعها أكثر من غيرها.

"ما حدث لسمارا...عديني أنه مهما فعلتُ من أجلك لن يحدث لي شئ. أقسمي أنك ستحميني مهما يكن."

توسعت عيناي وربما أنها فهمت ما دار في بالي لأنها أسرعت في النفي. "لن أخبرك بما اكتشفت في القاعة، ديانا. مستحيل، سوف أعرض نفسي للطرد أو...أسوأ. لا أعرف ماذا حدث لسمارا لكنهم لن يتركونها طليقة بقدر المعلومات التي تمتلكه. لكني سوف أساعدك للوصول لما تريدين، فقط لا تطلبي مني الإفصاح عما رأيته في قاعة اروز. سأساعدك حتى تثقي بي وتطلعيني على سبب وجودك الحقيقي في الأكاديمية. سأساعدك شئتي أم أبيتي لكني لن أتدخل في شئونك حتى لا أفسد أي شئ لكِ— لكن عديني أنه مهما وصلت الأمور، لن يحدث لي شئ. بمقدورك ذلك أنا متأكدة. وأعلم أنه رغم ما ستقولين فأنتِ تهتمين لأجلي ولن تدعينهم يؤذوني."

عندما تلألأت عينا جرايس بالدموع تسارعت خفقات قلبي وهي تنظر لي بثقة شديدة كادت تحطمني. كيف لها أن تضع تلك الثقة في شخص مثلي؟ أنا أنانية ولن أتوقف حتى أصل لمبتغاي وأدمر هذا المكان.

وكأنها تعرف ما يدور برأسي يدها ارتفعت لتقبض سترتي من الأمام. "إياكِ وأن تصبحي مثلهم، ديانا. خلّصينا من هذا السجن قبل أن تحبسينا فيه أكثر. لقد عِشنا في هذا الجحيم أكثر منك ولا أريد الموت فيه. لقد اكتفيت—"

"جرايس—" ما كانت تقوله كان خطيراً. إن سمعها أحد...إن اكتشف أحد...

"—دخول تلك القاعة كان أسوأ كابوس يحدث لي. أنا لم اختر هذا القدر ولا أود يداً فيه. كل ما أطلبه منكِ أن تعديني ديانا."

فرغتُ فمي ثم عاودت إغلاقه قبل أن أهز رأسي واضعةً مسافة بيني وبينها حتى افلتت مقدمة سترتي. "أنتِ لا تعرفين عما تتحدثين، جرايس. أنا لا أنوى فعل أي شئ فوفري أنفاسك. ولن يصيبكِ مكروه لأنكِ لن تساعديني بشئ."

أخذت جرايس نفساً طويلاً استجمعت فيه نفسها وكبريائها حتى أصبحت أمامي جرايس ثندر التي عهدتها عدا عن ابتسامة حزينة زينت محياها. "سنرى بشأن هذا."

ومع هذه الجملة هي رحلت. تاركةً إياي أغرق وحدي في محيط من الأفكار والمشاعر.



كنت أقوم ببعض التمرينات البسيطة التي أرتني إياها أخصائية العلاج الطبيعي في الغرفة المخصصة المتواجدة بمحاذاة مكتب المدربة ديماس متأخراً في الليل أنتظر إنهائها تدريبها المعتاد. عيناي مثبتة على زجاج الغرفة ونحو قاعة الرقص الواسعة لأن الساعة قد دقت الثانية عشر منذ دقيقتين، وهذا عادة الوقت الذي تنتهي فيه مارفن من تمرينها الإضافي. عندما لمحتها أخيراً وهي تخطو نحو باب القاعة تحت الإضاءة الخافتة، كانت تلم شعرها في ذيل حصان وعلى كتفها حقيبتها السوداء.

أفلت فوراً ساقي التي كنت أدلكها وقفزت من على السرير العلاجي منتشلةً حقيبتي في يدي قبل أن أترك الغرفة وأسرع خلفها. خطواتي  كانت هادئة وحذرة وأنا أتسلل بين الممرات خلفها وكان للموسيقى التي تنبعث من المكبرات فضل في عدم سماعها لصوت حذائي وخطواتي الخافتة ورائها.

كما توقعت تماماً مارفن لم تتجه مباشرةً للمهاجع بل استدارت فجأة عند احدى الطرقات وسلكت منعطفاً مختلفاً. من لغة جسدها المطمئنة والمرتخية لم تبد متوترة وهي تسلك طريقها لأتأكد أن وجهتها تلك هي ترتادها كثيراً—ولا أحد يعلم بذلك.

كان حتى سلكَت منعطفاً أخيراً أن توقفت، فلا جدوى من الإكمال إلا إذا كنت أود الكشف عن نفسي لها...وأنا كنت أعلم وجهتها التالية مسبقاً. شاهدت ذيل حظانها الأحمر يختفي حول العامود لأعتمد على سمعي لأعرف أنها تتسلق السلم المؤدي لسطح المبنى. نفس السطح الذي أطلعني عليه آجاكس في تلك المرة.

تركت مكاني من جوار الحائط وجثوت خلف العمود وألقيت نظرة على باب السقف في الإضاءة الخافت، أضيق عيناي حتى أتمكن من الرؤية جيداً...حتى هرب مني نفس. لكن كان مفتوحاً كما توقعت. ليس على آخره بل كفاية لأعرف أن شخصاً قد تسلل للسطح- وبالتحديد مارفن. كنت أعرف أن شخصاً ما يتردد على هذا المكان عندما رأيت تلك النبتة ذلك اليوم عندما أراني آجاكس المكان مزهرة ومليئة بالحياة دالاً على أن أحداً ما يرعاها.

رفعت سترتي من الحقيبة وأخذت أرتديها سريعاً قبل أن أنهض نحو السلم. اقتربت من الباب وقابلتني فوراً موجة باردة داعبت وجهي وشعري من خلال فتحة الباب البسيطة. بهدوء ودون إصدار أي صوت، استرقت النظر.

كان السطح مظلماً وبارداً لا شئ يمكن رؤيته سوى انعكاس أضواء باقي المباني عليه، ولكن بالقرب من الحافة في أقصى ركن من السطح...جثا جسد نحيل حيث تقع النبتة، شعرها الطويل يتطاير خلف ظهرها الآن بينما تنحني مارفن فوق الوردة تسقيها.

وقفت لدقيقتين أشاهد سكونها في تعجب. لقد شككت بأمرها لأنها الوحيدة من الستة التي تسهر لوقت متأخر عدا أليكساندر ووحدهم الستة من لديهم سلطة كافية تتيح لهم التنقل في أماكن غير مفتوحة لباقي الطلبة.
بدون إصدار أي صوت انحنيت نحو عقب الباب ووضعت كرة مطاطية على الأرض كانت معي بالحقيبة--حتى تمنع الباب من أن يغلق كلياً--واستقمت. كنت قد استدرت على استعداد للرحيل عندما أوقفني صوتها فجأة:
 

"أحياناً أتمنى لو كنت مكانها،" 

أدرت رأسي في تفاجؤ ظناً أنها اكتشفت وجودي لأجدها كما كانت جاثيةً ركبتيها وظهرها للباب وتناظرالوردة بملامح لا أستطيع رؤيتها.

"صحيح أني ما كنت لأصمد ما حدث لها...لكني كنت لأختفي." همست مجدداً لأدرك أخيراً أنها تُحادث نفسها وليس أنا. خرج نفسي على هيئة بخار أمام عيناي لأشد السترة حول جسدي أكثر وأتسائل كيف لمارفن تحمل هذه البرودة وهي لا تزال في ملابسها الرياضية التي تظهر ذراعيها وساقيها.

"عائلاتنا تريد منا أشياءً تفوق قدرتنا أحياناً. نحن الأفضل هنا... لكنه لا يكفي." استمرت مارفن في الحديث غافلة تماماً عن وجودي ووجدت نفسي ألتصق بعتبة الباب أكثر كي أسمع صوتها بوضوح فوق نسمة الهواء. "ربما لستُ مؤهلة لحياة الهرم مثلهم. هل...هل ستأخذ ديانا مكاني إذاً؟"

شاهدتها تترك زجاجة المياه على الأرض أخيراً ثم تعدل في جلستها فبدل أن تجثو أصبحت جالسة تماماً على الأرض الباردة ثم رفعت رأسها للسماء. لم أكن أرى سوى ظهرها لكني لم أحتج قراءة ملامحها لأستشعر الحزن من لغة جسدها."لقد تعبت من هذه الحياة. أنا لا أظنني مثلهم. كل ما أردت هو أن أصبح مصممة أزياء جيدة. لقد تم خداعي. لقد...لقد خدعوني."

انكسر صوتها ومالت رأسها للأمام ليحيط شعرها الأصهب بوجهها، وعندما بدأ كتفاها في الاهتزاز تراجعت بعيداً عن الباب في تردد. عندما سمعت شهقتها الأولى تركت يدي عتبة الباب وتراجعت أكثر نحو السلم. لم يكن حتى أخذت آخر سلمة أن ملأ صوت شهقاتها المتقطعة المكان. ولم أستطع فعل شئ سوى
 أن أترك السلالم في حرص وهدوء شديد إلى حيث العمود العريض الذي جلست أنتظر خلفه.

بعد عشرة دقائق مرت كساعات وأنا أستمع لصوت بكائها وأمنع نفسي بصعوبة أن أتوقف عما أفعله وأترك المكان وحسب غادرت مارڤن السقف أخيراً وأغلقته خلفها. وعندما عبرت بالقرب من العمود وضرب ضوء الردهة وجهها لا أعلم لماذا لكنني أشحتُ بنظري، ثم انتظرتها حتى تأكدت من رحيلها قبل أن أترك مكاني والصعود للسطح


كما توقعتُ منعت الكرة المطاطية اغلاق الباب كلياً ولهذا تمكنت من فتحه تماماً والولوج للسطح. وبدل من أن يتملكني شعور النجاح كان يملأني التشوش. داعب الهواء البارد شعري في ظلام السطح وأنا أقترب من الحافة وعيوني على الوردة الحمراء الصغيرة

عاينتها لعدة ثوان وأنا أفكر في ما سمعته. عقلي وقلبي يتضاربان معاً. كيف لي أن أشعر بالشفقة نحو نفس الشخص الذي دمر حياة فتاة صغيرة؟ كيف لي أن أظن أنها طيبة وأن المكان من جعلها هكذا وهي تسعى لتدميري كما فعلت لزيريلدا... ولم تتب من خطأها السابق؟

لا بد وأنني أفقد عقلي. بل لا بد وأنني بالفعل فقدته حتى أفكر هكذا الآن. ليس والأمورعلى وشك أن تصير خطيرة ووقتي أصبح محدوداً. تملكني الغضب من نفسي واستنشقت الهواء قبل أن أرفع بصري للسماء وأحركه حول مباني الأكاديمية.

كما كان واضح من الأسفل -كان كل مبنى مضاء ويمكن تمييزهلكن جل ما شد انتباهي كان مبنى إلييسلقد كان كما رأيته أول مرة مع آجاكس-أسود ولكن الآن كان مضيئاً ورغم ذلك بدا معتماً ومخيفاًكان المبنى الأبعد والأكثرانعزالاً عن غيره

ألقيت الحقيبة واتخذت بقعة مارفن مكاناً لأجلس فيه وباشرت أراقب البوابات ومواعيد فتحها وإغلاقها طوال الليل، ثم أدوّن كل اكتشاف في مفكرةلكن حتى أشعة الصباح الأولى ومنذ منتصف الليلأبداً ما فتحت بوابة إلييس.


--------------------

في الليلة التالية لم تصعد مارفن للسطح لأنها قد أمطرت لبضع دقائق لمنتصف اليوم فاتخذت نفس البقعة مكاناً لي وجلست أكرر ما بدأته الليلة السابقة. قد خيّل لي أنه قد تفتح بوابة إلييس في يوم مختلف، فمستحيل أن تظل مغلقة للأبد وكان علي معرفة متى بالضبط يفتحونها وإلى كم من الوقت. وحتى أعرف أخذت أدون جميع مواعيد فتح وغلق البوابات الأخرى في حالة احتجتها.

كان الوقت في حدود الساعة الثانية فجراً والنعاس بدأ يتغلب علي عندما لم يتغير شيئاً لفترة وأنا على نفس الوضعية أحدق أمامي...ورأسي تميل وعيناي تغلق أفقت عندما كدت أميل بجسدي كله ورفعت رأسي بسرعة. في تلك اللحظة بالضبط التقطت عيناي جسداً يعبر بوابة المعلمين خارجاً. طار النوم من عيني فوراً ونهضت بسرعة واقتربت من الحافة. لقد كان الوقت قبل موعد إغلاق بوابة مبنى المعلمين وهذا الشخص يتسلل خارجها؟

حاولت رؤيته لكن جل ما كان واضحاً في الطريق المظلم بين البوابات أنه طالب من سترته الذهبية. لم يكن حتى اقترب من مبنى المهاجع وسطع ضوء بوابتنا على رأسه المنخفضة أن لمحتُ شعره الأشقر وتبينت لي هويته. هرب مني نفس متفاجئ.

لكن...ما خطبه؟ كانت مشيته غريبة ومطرقاً رأسه وكل ما استطعت رؤيته هو شعره المبعثر. اقترب أكثر حتى وصل للمبنى وهنا أدركت خطب مشيته. لقد كان يعرج.

لملمت أشيائي فوراً وتركت السطح في عجلة حتى ألحقه قبل أن يصل لغرفته. أخذت السلالم جرياً وأسرعت بعدها نحو مهجع الغناء عدواً حتى لمحته لتتوقف قدماي فجأة على هيئته.

هو لم يلحظني، لا يزال مطأطأً رأسه ويسير وكأنه يجرّ قدميه بصعوبة مستنداً على الحائط. اختبأت خلف العمود في الظلام عندما اقترب مني واحتضنت حقيبتي لصدري ووقفت أشاهده. لقد كان هادئاً، وحوله غيمة كئيبة على غير عادته وكأن ما يبطئ حركته هو هم الدنيا كله.

عندما أخيراً عبر تحت ضوء الردهة كتمت شهقتي على منظره. لقد كان وجهه مليئاً بالكدمات ويغطيه الدم وحالته لا يرثى لها-- وكأنه كان يحارب من أجل حياته. عبر العمود الذي أختبئ خلفه دون أن يراني وعيناي متسعة على حالته الرثة. لقد كان ينزف من فمه كذلك...

التفت معه وشاهدته يأخذ طريقه نحو غرفته ولم أستطع تصديق أن هذا هو نفس أليكساندر الذي أراه كل يوم. التصق بصري بظهره واسمه الذي يحدق باتجاهي وكأن جزءاً منه دوماً يعلم بوجودي. رفعت رأسي عندما توقف فجأة ورفع يده اليمنى التي لا تستند على الحائط ومسح فمه بعنف. اهتز كتفيه قليلاً قبل أن أسمع صوت ضحكته الذي أخذ يعلو حتى كان ملأت صوت ضحكته الردهة الخالية من الكل ما عدانا قبل أن يخفض يده والدم يغطيها ويترنح قليلاً. رفع رأسه ينظر لشئ وتتبعت مجال نظره لأرى مكبر الصوت. أخذني الأمر عدة ثواني لأستوعب أنه يستمع لأغنيتي التي تذاع.

وإنما يزداد الألم جرحه عمقاً، وإلى نهاية قصتي سأعدو وأعبر طرقاً،
لأنني الكلام والفعل والنتيجة، وإلى آخر النهاية قد أجد الطريقة،
حتى وإن سرقوا جملي وجف الحبر
ففي آخر دقيقة ستُكشف الحقيقة.


لا أعلم لما ظل يحدق طويلاً حتى بعد أن انتهت الأغنية. لم أكن أرى وجهه وكان ساكناً للغاية، لكن سماعه لآخر مقطع غيّر شيئاً في وقفته رغم أنه لم يتحرك. قلبي كان يخفق بسرعة لسبب مجهول وأنا أشاهده يقف غارقاً في أفكاره ويسحبني معه حتى وصل للشاطئ.

نظر أمامه ورغم أنني لا أرى وجهه شعرت بالتغيّر الذي حلّ عليه. وقبل أن أفكر فيما قد يكون هو وصل لغرفته، أدخل رقمه السري ودخل غرفته. كل هذا وهو لا يملك أدنى فكرة عن أني كنت أقف معه.



♪♪


وصلت لصف التمثيل على عجلة لأني كدت أتأخر. لأن ليلة البارحة بعد أن عدت لغرفتي أبقتني أفكاري يقظة حتى خلدت للنوم دون أن أشعر وكدت أتأخر على الصف عندما استيقظت.

رفعت آرتميس رأسها ونظرت ليدي التي تستند على المدرج الأمامي بازدراء. "وما بالك اليوم؟"

"هل بدأتِ تهتمين بأحوالي أخيراً آرتميس؟ كنتُ أعلم أنه ليس إلا تمثيل وأنكِ تحبينني سراً." وضعتُ كفي أمام قلبي في تأثر لتقلب آرتميس عينيها وتتجاهلني وتنظر لأليكساندر الجالس جوارها.

هذا استدعى انتباهي إليه لأجده يحدق أمامه في جمود تام وكأنه لا يشعر بأحد حوله. شعره كان منسدلاً فوق جبهته أكثر من العادي ليخفي عينيه عنا تماماً لأشك أنه يرى شيئاً منه، ووجهه خال من الملامح. لكن ما فاجأني هو أنه لم يضع ولا ضمادة. ولم يكن هناك أثر لجروح على وجهه. نظرت سريعاً ليده لأجدها منقبضة ولكن لا أثر لجروح أو أن أحداً حاول مداويتها بوضع شاش أو شئ عليها.

هل..هل يخفيها بمساحيق تجميل؟

انعقد حاجباي في صدمة، لما قد يخفي شيئاً كذلك؟ أمسكت آرتميس يده المنقبضة وكأنها تواسيه ولم أعي أنني أحدق إلا عندما أخرجني سؤالها من شرودي. "هل تريدين شيئاً منا؟"

رفعت بصري لها لأرى انزعاجها جلياً وكدت أغادر حتى أتفادى شجار قبل بدء الصف عندما أوقفتني النظرة الأخرى المخفية في عينيها.

القلق.

توجهت لمكاني بالصف دون كلمة ونظرتها تزاولني. هل كان قلقاً مني أم على أليكساندر؟           

--------------------

"الآنسة بريف صامتة على غير عادتها." تسلل مالك من خلفي لأرفع رأسي وهو يدير نفسه ليصبح أمامي وتقابلني ابتسامته المشاكسة. كنا في صف الموسيقى قبل أن يبدأ بربع ساعة ولم يكن متواجد بالقاعة سوى القليل من الطلبة.

تنهدت قبل إعادة انتباهي للكراسة وما أكتب بها. "وأنت مختف منذ مدة لكن لم أسألك عمّا تخطط."

جائت ضحكته مرتبكة وهو ينظر حوله سريعاً. "بماذا تهذين؟ أنا لا أخطط لشئ."

لوحت بيدي بضجر. "وأنا لستُ صامتة."

هذا أسكته مدة لأخطّ شيئاً في الكراسة مما استدعى انتباهه لها ليميل فوقي محاولاً استراق النظر. "ماذا تكتبين؟" 

شددت الكراسة بعيداً عن مجال بصره في انزعاج. "هذا ليس من شأنك."

"لا تمانعين إن ألقيت نظرة أنا إذاً؟" انضم لنا الصوت الأنثوي من يساري لأتفاجأ بالدفتر يتم انتشاله مني. اندفعت خلفه أحاول استرداده من يد آرتميس التي ظهرت من العدم لكنها ابتعدت عن طريقي وبدأت تقرأ بعينيها ما هو مكتوب. كنت أعلم أني لم أسلم منها عندما تركتني لفترة دون إزعاج ولكن يبدو أنها تفعل ذلك اليوم بسبب نظراتي لأليكساندر.

"هل أصبحتِ سارقة الآن أيضاً؟" نهضت وأنا أذهب لها في غضب ولكنها لم تسمعني وعينيها تتنقل بسرعة بين الكلمات بحاجبين مقطوبين.

كانت اليوم ترتدي شعرها على شكل كعكة عالية تظهر جمال ملامحها وتبرجّها خفيف عدا من أحمر شفاه ورديّ وغرتها التي زيّنت جبهتها وهي تنزل على حاجبيها وأذنيها. لم أستطع قراءة ملامحها التي تبدلت ولكنها ضاعت بين جملي المكتوبة لدرجة أنها لم تقاوم عندما انتشلت الدفتر منها بعد أن وصلت لها.

"تعلمي عدم التدخل فيما لا يعنيكِ، جولز." هسهست بحدة مغلقةً الدفتر لكن القلق بدأ يعتريني عندما ظلت آرتميس عاقدة حاجبيها وهي تنظر للأسفل حيث كان الدفتر بين يديها منذ لحظة.

لم يكن حتى مرت لحظة أخرى وهي صامتة أن أفاقت مما كانت فيه لترفع بصرها وتمسح عينيها على جسدي قبل أن تعطيني نظرة حاقدة لكنها افتقرت لسعتها المعتادة. "منذ متى وأنتِ تكتبين؟"

"أنا لم أكتب هذا."

ارتفعت شفتها في استخفاف. "لقد رأيتكِ وأنتِ تكتبين ذلك الآن. لما تخفين ذلك؟"

"أنا الآن أشعر بفضول شديد. ماذا قرأتِ آرت؟ تدخل مالك من خلفي لأتذكر وجوده. لكن لم يعره أحد انتباهاً وآرتميس تسألني مجدداً:

"لماذا مستواكِ منخفض في ذلك الصف إذاً؟"

"ولما قد أخبركِ بأي شئ؟"

"أيتها ال—" تملّك الغضب من ملامحها وهي تظهر في وجهي فجأة وتمسكني من مقدمة قميصي بقوة. "بم تخططين؟"

"ماذا؟" سألتها ببرود. "هل تخافين على مركزك من أن يتم أخذه من قبلي؟ ألهذه الدرجة تشعرين بالتهديد؟"

"منكِ أنتِ؟" كلماتها كانت مليئة بالتقزز. "هل نسيتي نفسك؟ أنتِ حثالة مقارنة بي."

"ماذا يحدث هنا؟" ظهر الصوت الجديد ليلتفقت كلانا نحو باب القاعة لنرى أليكساندر وآركيت واقفين محدقين نحونا. أعطى أليكساندر آرتميس نظرة اتهام. "آرت، إنها مصابة."

ظننتها مزحة وكدت أسخر من جملته عندما اشتدت قبضة آرتميس في كراهية قبل أن تفلتني. حدقت بها لوهلة في تفاجؤ. ألهذا السبب هي مبتعدة عني تلك الفترة؟ هل أليكساندر السبب؟

لكني لم أستطع تركها معلقة حول ما اكتشفته لذلك كان علي استفزازها أكثر. مسحت على كرمشة قميصي الأبيض التي تسببت بها آرتميس بطرف الدفتر وأنا أسخر: "متى أصبحتِ تابعة لرويال؟ انظري إليكِ وأنتِ مطيعة..." ابتسمت لها. "تماماً كالكلاب."

"أوه بحق ال—"

"أيتها العاهرة!" صرخت آرتميس وهي تدفعني بكلتا يديها دفعة قوية لم أتوقعها لتتوسع عيناي وأنا أسقط للوراء.

يدي السليمة كانت مشغولة بالدفتر لذلك لم أستطع تركه بسرعة وقد حاول مالك اللحاق بي من الناحية الأخرى لكنه كان بعيداً عني لأرتطم بالأرض وذراعي المكسورة تصتدم بحافة طاولة الصف لتهرب مني صيحة كتمتها بكفٍ على فمي. ألم شديد أعماني عن العالم من حولي لعدة دقائق لم أشعر بمالك وآركيت وأليكساندر وهم يتجمعون حولي حتى رمشت وبدأت أحاول التركيز.

اللعنة، كم كان يؤلم.

أول ما قابلني كان وجه آرتميس وهي متجمدة في مكانها قبل أن تراني أنظر لها لتستقم بسرعة وتمسح ملامح الصدمة من على وجهها فوراً. لكن حاجباي انعقدا وأنا أرمش من خلال الألم الشديد مجدداً. فلقد رأيتها: يدها كانت ممتدة باتجاهي وكأنها كانت ستساعدني.

"ديانا؟" جائني صوت آركيت المتمتم لأستوعب أنهم ينادونني منذ فترة وأنا لا زلت أشاهد آرتميس حتى بعد أن تركت المكان أمامي وعادت لمقدمة الصف لتتخذ مقعدها. امتدت يده بغرض ملامسة كتفي السليم لتوقفها قبضة أليكساندر بسرعة شديدة جعلت الأول ينظر له في حيرة.

"ابتعدوا." بصقت بحدة ليتراجعوا قليلاً وأبدأ بالنهوض عن الأرض وأنا أصك أسناني في غضب عارم. يالها من وقحة. اللعنة عليها وعليهم. "فتلعودوا إلى بقعة الجحيم من حيث أتيتم."

 "كم أنتِ قاسية." حاول مالك المزاح ولكن النظرة التي أرسلتها له كانت كفيلة بإسكاته. وضع آركيت يداً على كتفه وبدأ يسحبه معه في اتجاه مقاعدهم.

لكن كالعادة لم يفاجئني أليكساندر عندما لم يصغي إلي ويذهب معهم. تجاهلته وانحنيت أستعيد دفتري من على الأرض قبل أن أستقيم وأعود للجلوس في مقعدي قبل أن يزعجني الهرم. ظل الأخير واقفاً خلفي لأتنهد في انزعاج: "هلا انتهيت من الوقوف هكذا كالمريبين؟ فلتتركني وشأني رويال. أنا لست في مزاجٍ لألاعيبك وخصوصاً اليوم."

"أهذا بسبب سمارا؟"

تجمدت على سماع اسمها ومنعت نفسي من مواجهته بصعوبة شديدة. لقد كان أول شخص ينطق اسمها منذ وصل إلينا خبرها فجر اليوم. "هل كنتِ تعرفينها؟"

"كلا. ولكن يبدو أنني أهتم برحيلها أكثر من مَن كانوا أصدقائها. أخبرني أليكساندر،" صفعت غلاف الدفتر أغلقه وأدرت رأسي أنظر له. "إنهم سيقتلونها أليس كذلك؟"

توسعت عيناه لأقصى درجة ونظر حوله قبل أن يقترب مني بسرعة. "ماذا تفعلين؟"

ابتسمت ابتسامة لاذعة. "أعني هم لن يتركوها طليقة بكم المعلومات التي لديها أليس كذلك؟" مِلتُ نحوه وكأنني سأهمس لكن صوتي لم يكن خافتاً. الصف كان قد امتلأ والطلبة جالسون حولنا وما كانت إلا دقائق حتى يصل معلم الموسيقى. "عليهم التخلص منها. لكنها لن تكون المرة الأولى صحيح؟ سيتخلصون منها كما تخلصوا من زيلدا ولم تقوموا بفعل شئ كالحثال—"

"ديانا!" كانت أول مرة يصرخ في أليكساندر.

توقف الجميع عن ما كانوا يفعلونه والتفتت الأعين لنا عندما حل الصمت على الجميع. الهرم كلهم كانوا في مقاعدهم بمقدمة الصف يحدقون باتجاهنا وعلى رأسهم آجاكس الذي شاهدنا بنظرة لا تفصح عن أفكاره كالعادة أما آرتميس فقد نهضت من مقعدها ولولا يد مارفن التي تمسكها من معصمها لكانت اندفعت نحو مكاني وصفعتني.

سقطت ابتسامتي وعيناي على أليكساندر وتراجعت في المقعد لأرخي ظهري. لم يهتم الأخير للأنظار المثبتة علينا ومال فوقي حتى أصبح وجهه يحوم فوق وجهي وثبت يديه على كل جانب مني على الطاولة. من هذا القرب استطعت رؤية آثار الكدمة التي تزين أسفل عينه اليمنى التي حاول إخفائها لأبتلع. لو لم أكن أعلم بوجودها لما رأيتها. لما لم ألحظ شيئاً كهذا من قبل؟ هل حدث ذلك من قبل أصلاً؟ وكيف له أن يتصرف وكأن شيئاً لم يحدث معه؟ اتخذني الأمر كل ما في من قوة ألا أدفعه وأبتعد عن قربه الشديد عندما قال:

 "أعرف ما تفعلين."

"أوه حقاً؟"

تجولّت عيناه العسلية بين عيناي مطولاً حتى بدأت نبضات قلبي تتسارع  لأسحب رأسي بعيداً عنه عندما شعرتُ بالإرتباك لقربه. "إذا كنتِ تريدين معرفة رأيي حيال ما حصل اليوم ما كان عليكِ سوى سؤالي."

"ولما قد أهتم لرأيك؟"

هنا هو ابتسم ابتسامته المغازلة والواسعة لتظهر أسنانه المثالية لأشيح بنظري عنها وهو يستقيم واضعاً متنفّس بيني وبيني أخيراً. ولكنه لم يغادر ويرحل في طريق مقدمة الصف. بل فاجأني تماماً عندما جلس جواري.

توسعت عيناي. "ماذا تفعل؟"

"ماذا يبدو لكِ أني أفعل؟ إنني أجلس."

"لا تتحاذق معي. هذا ليس مقعدك. مكانك بمقدمة الصف."

في تلك اللحظة اقترب الفتى الذي يجلس في ذلك المقعد جواري دوماً. "ا- ليكس أنا أجلس هنا..." ليبتسم له أليكانسدر ويشير للأمام بيده. "مرحباً يا رجل، عذراً لكن اجلس مكاني هذه المرة."

وبهذه البساطة وبعد أن اتسعت عينا الصبي أومأ في حماس وأسرع لمقدمة الصف يأخذ مكان أليكساندر وسط الهرم. التفت لي أليكاساندر بعدها بتحاذق: "كنتِ تقولين؟"

تنهدت وفركت بين عيني. "ماذا تريد مني؟"

"فقط ألهو قليلاً." اكتفى بالإبتسام وهو يرتخي في مقعده وينظر للطلبة الذين يتهامسون فيما بينهم أثناء استراقهم النظرات نحونا. كيف؟ كيف يتصرف كطبيعته وأنا أمس رأيته على وشك الإنهيار؟ "علي الإعتراف، المنظر من هنا يبدو أفضل."

"بلا شك. التحديق بمؤخرة رؤوسكم هو أكثر ما أتطلع إليه كل يوم."

هذا جعله ينظر للهرم حيث كانت تحدق بنا آرتميس بالفعل والشرارات تطاير من عينيها. غمز لها وهو يقول: "أنتِ محقة ياله من منظر كئيب."

"أهذا يعني أنك ستضمني للهرم إذاً؟" سألته ببرود ليعمّ الصمت بيننا فوراً لأقلب عيناي. "استرخ. لا أفهم ما مشكلتكم مع إنضمامي لكم. هل ستكون نهاية العالم؟"

اكتفى أليكساندر بالإبتسام ولم يعلق بمزحة كما ظننت. في تلك اللحظة دخل الأستاذ للصف أخيراً ليلتزم الجميع الصمت والأستاذ يضع حاسوبه على المكتب قبل أن يرفع رأسه ويتوقف عندما وقع بصره على أليكساندر في مؤخرة الصف. كان على وشك أن يعلّق عندما نظر نحوي جوار أليكساندر ليطبق فمه ويبدأ الصف دون تعليق.

فتحت حاسوبي وبدأت أتابع الأستاذ محاولةً تجاهل وجود أليكساندر جنبي لكنه كان يحاول ازعاجي بغرض المزاح طوال الصف وتجاهله كان صعباً. كان يستمر بالإقتراب مني وسؤالي أشياء مثل: "أية آلة تفضلينها للعزف؟" "لما ليست الجيتار؟" "هل تريدين تعلمه؟" "لكني لم أعرض.."

"هلا توقفت؟" هسهست بعد مرحلة ما. لقد كان قريباً أكثر من اللازم ورائحة عطره تسيطر على حواسي. هذه أكثر مرة أجلس جواره لمدة طويلة عدا عن تلك المرات على الدرج ليلاً. "لا أفهم ما حلّ بك واهتمامك المفاجئ بي."

"هل أفهم من هذا أنكِ لا تعتبريني صديقاً؟"

"بلى." أجبت بكل برود.

"آوتش." تظاهر بأنني ضربته برصاصة في قلبه لأتجاهله وأحاول الإنصات للأستاذ الذي كان ينظر لنا كل حين بسبب حديث أليكساندر معي.

هذه المرة عندما مال أليكساندر كنت أستعد لدفعه لكنه أمسك معصمي برفق وهمس في أذني: "هل أنتِ متحمسة للإجازة القادمة؟"

تجمدت تحت لمسته ليفلتني وأنا أضيق بصري عليه وأعقد حاجباي في انزعاج من رائحته التي تلتفّ حولي. "وما المميز بها لأتحمس؟" 

"إنها الأخيرة قبل مسابقات نهاية العام والاختبارات. لن يتسنى لنا الحصول على إجازة مجدداً حتى انتهاء العام الدراسي." 

"ماذا؟" سحبت نفسي بعيداً عنه بسرعة. "لم أكن أعلم هذا." 

هز كتفيه. "استمتعي بها قدر ما تستطيعين إذاً. إنهما آخر يومان حرية سنمتلكهما لمدة." 

التزمت الصمت قليلاً قبل أن أسأله: "ماذا تنوي أن تفعل فيها؟" 

على هذا هو ابتسم. "ماذا، أتريدين تقضيتها معي؟" 

"فلتحلم كثيراً، رويال." 

غمز باتجاهي قبل أن ينظر لمقدمة الصف قبل أن يوبخنا الأستاذ ويجيب: "سأقابل أخي." 

"أنت... لم تره منذ مدة؟" كنت أتذكر الإختبار الذي أخذناه سوياً وهم يهددونه بعدم رؤية أخيه. هل سمحوا له أخيراً برؤيته؟ 

ملامح أليكساندر لم تعد مازحة وهو يحدق بالأمام وبعد مدة أومأ في صمت. وعندما أخفضت عيناي للطاولة كانت يده مقبوضة. 

"فلتستمعا إذاً." 

هذا جعله ينظر لي لكنني كنت عاودت التركيز مع الأستاذ بالفعل والإستماع له. لكن ليس قبل أن ألمح آجاكس وهو ينظر نحونا من المقدمة بوجه غير مقروء.


♪♪

 

"لا أصدق أنهم فعلوا بكِ هذا." قال لينك في غضب عارم وهو ينظر إلى ذراعي.

"لم تكن الإدارة هذه المرة."

"أتريدين إخباري أنهم لم يعرفوا؟ انهم يتصنتون على المكان كله... كان بإمكانهم إيقافه!"

"لكنهم لم يفعلوا!" صحتُ به ليبسط شفتيه. "أتعلم لماذا؟ إنه تحذيروتحدّ. إنهم يحذروني أني لا بد والوصول للقمة وفي نفس الوقت يتحدوني أن أتسلق لها في هذه الحالة في الرقص ويظنون أن الحادثة قد تؤثر نفسياً على أدائي في باقي المواهب."

"لكن...لا أفهم السبب."

انعقد حاجباي. "بدأت أفهم أنهم ليسوا بحاجة إلى سبب، لينكولن. إنها مجرد لعبة قوى."
 

تنهد ونظر لحاسوبه وبدأ يضغط على لوحة المفاتيح قبل أن يغير الموضوع: "ألن تسأليها حقاً؟"

سأل لينكولن رافعاً عيناه عن شاشة حاسوبه، عيناه اللتا كانتا حمراوتين من السهر والجلوس أمام شاشة حاسوبه طوال اليوم، لكن لا أحد يستطيع منعه أو ابعاده عن أكثر ما يحب في هذه الحياة.

"ألم تكن تستمع لأي كلمة أقولها منذ ساعة؟ هناك فتاة أفصحت عن إحدى الأسرار وتم ترحيله." 

"من ثم؟ أتقولين أنكِ تهتمين إذا رحلت ثندرأم لا؟" 

مرت علينا لحظة من الصمت جعلت لينك يرفع حاجباً في تعجب مني، لذلك تمتمت تحت أنفاسي: "كلا."

"أستميحك عذراً ؟ هل تكنين لها الإحترام الآن أم ما شابه؟ ألم تكذب عليك من قبل؟"...مال لينك واضعاً مرفقيه على الطاولة ونظرته كلها صدمة وبعض الحدة... "جرايس ليست صديقتك، ديانا. لا أحد هناك صديق لكِ حقاً وأنتِ تعلمين." 

"أعلم ذلك." أخبرته في حدة وهو شاهدني في صمت لوهلة ثم تنهد وتراجع في كرسيه خالعاً نظارته قبل أن يفرك جفنيه في تعب:

 "لا تؤاخذيني، ديان ...لكن بدأت أشعر أنكِ نسيتِ هدف ذهابك للأكاديمية..." توقف قبل أن يستطرد وينظر بعيداً نحو
الأطفال التي تجول وتلعب حول المتنزه. "ماذا حدث للعثور على الأسرار؟ لاكتشاف الحقيقة والإيقاع بجميع الأوغاد الذين أذوا أختي وعائلتك؟"
 

"إنني أبذل قصارى جهدي، لينك. لكن الإجابات لا تهطل علي من السماء." 

مال على الطاولة في جدية تامة، عيناه الزرقاء تظلم في تمعن: "ديان– تلك الفتاة لديها جميع الأسرار التي نبحث عنها. إن الحل أمام عينيكِ ولكنكِ ترفضين الإمساك به."

"وكيف أقنعها أن تخبرني عما رأته برأيك؟" 

هز كتفيه. "هي لن تقتنع.عليكِ إجبارها على الحديث."

تصلب كتفاي ونظرت بعيداً. هو حاول إقناعي مجدداً. "لن يضحي أحد بنفسه من أجلك منهم. إنهم ليسوا أصدقاء. بل ربما حلفاء. لكن صدقيني عندما يحين وقت التخلي عنكِ من أجل إنقاذ أنفسهم...لن يترددوا لحظة في تسليمك للعدو."

وجهي أصبح بارداً ورفضت خوض ذلك النقاش معه لأكثر من ذلك لذلك غيرت الموضوع. "أي أخبار عن ديرن؟" 

بسط لينك شفتيه على تغييري الموضوع وبدا على وشك قول شئ لكنه تنهد بدلاً من ذلك. "لا جديد معه. كل التقارير عنه تشير أن أمواله الشخصية وأرباح الشركة صادقة مئة في المئة. منذ تولى منصب المدير التنفيذي لمجموعة آركان لم يختلس قرشاً واحداً. ولا حتى في السجلات التي لا تمر على قسم المبيعات، فلقد تفقدت كل شئ: ظاهر ومخفي." 

خالجني شعور غريب جعلني أنظر بعيداً عنه. "والدي لم يخلتس تلك الأموال، لينك. أحد ما اوقع به." 

"وتظنينه ديرن؟" 

بصري ذهب لهاتفي الذي رقد على الطاولة بيننا بعد أن تفحّصه لينك وجعلني أغلقه تحسّباً حتى لا يتم التنصت على محادثتنا. أمسكته لأتأكد أنه لا يزال مغلقاً قبل أن أجيب. "أظنه شخصاً أراد افلاس عائلة اركان تماماً." 

لينك لم يكن غبياً، بل شديد البعد عن أن يكون واحداً، ولهذا فهم مقصدي فوراً. "وتظنين الأكاديمية خلف ذلك اذاً؟" 

أرخيت ظهري ليلامس ظهر الكرسيّ وحدّجته بنظرة جادة وشعور الغضب يغلي داخلي. "لما لا؟ هم وراء مقتل أبي لا محال، لماذا لا يكونون أيضاً خلف سقوط شركاتنا في يد شخص آخر؟ ثم ديرن لا يمتلك ذلك القدر من المال الذي يسمح له بشراء جميع الشركات، أنت بنفسك تحققت من ذلك. هو لديه أسهم فيها لكن لم يكن أحد شركاؤنا. فمن أين أتى بذلك المال؟" 

اتسعت عينا لينك الزرقاوتان وعاود ارتداء نظارته في سرعة وهو يميل نحوي ليهمس: "ديان... إذا كانت الإدارة وراء تولّي ديرن منصب المدير التنفيذي فهذا يعني أنهم من خططوا لكل هذا... منذ البداية." 

عندما ظللت صامتة فرغ فم لينك في صدمة ثم أغلقه...ثم فتحه مجدداً قبل أن يهز رأسه ويفرك عينيه. "ياللهول...ياللهول. هم فعلوا ذلك حتى تقبلين المنحة. لأنه لو لم تخسري شركات والدك لكنتِ أصبحتِ أنتِ المديرة التنفيذية لمجموعة آركان." 

"إنها نظرية." 

"نظرية؟! ديانا هذا قد يعني أن حتى ما حدث لزيريلدا هناك لعبة قد خططوا لها أيضاً! لعبة قد تكون أكبر مني ومنكِ!" 

"ماذا؟ أستتراجع الآن؟" هدد الغضب بترك صدريوالصعود لصوتي لأحتويه وأحاول تمالك نفسي. "ربما تكون لعبة وهم من رسموا القواعد أولاً...لكنني من سيفوز في النهاية، لينك." 

أغلق لينك حاسوبه في حدة وأرخى يده فوقه وهو ينظر لي في غضب عارم، ليس مني بل من الأكاديمية. "إن كان ما تظنينه صحيحاً، فإذاً هم يمتلكون قوة كافية لتدمير سلسلة شركات عالمية وتغيير رؤسائها في عدة شهور!"

ملتُ للأمام أنا الأخرى وصوتي يحتد مثله لكن لم أجرؤ على رفعه حتى لا يسمعنا أحد. "وهذه القوة تمكّنت من التخلص من أقوى رجل أعمال في الولايات المتحدة بسهولة. أنا واعية تماماً ممن ألعب معهم، لينك، ولكنهم لا يعلمون مع من يلعبون بعد. أقسم أنني سأجعلهم يتوسلون حتى أرحمهم." 

التحمت عيناه مع عيناي في تحديق يملؤه الشرارات وقلبي يخفق لفكرة الانتقام لوالدي وتبرأة اسمه واستعادة حقي وحق زيلدا. وربما هذا ما رآه لينكولن في عيناي لهذا لانت ملامحه فجأة وابتسم ابتسامة جانبية بسيطة. "لطالما أحببت إصرارك." 

زفرتُ في سخرية من تغييره الموضوع ولكن رغم ذلك لم أستطع منع ابتسامة مماثلة من الارتسام على محياي أنا الأخرى لأغازله في مزاح. "ذكرني لما انفصلنا مجدداً؟ قد أفضّل سماع غزلك من الحين الآخر على غزل فتيان الهرم." 

"أنت من انفصل عني أنسيتي؟" مازحني وهو ينظر في ساعة يده ليتحقق الوقت، ولكني أعلم أنه لا يزال منزعج من كوني انفصلت عنه رغم محاولاته في اقناعي أنه لن يتخلى عني. 

حدث ذلك عندما تم استرجاعي من المستودع بعد اختطافي، فقد قطعتُ علاقتي بجميع أصدقائي أولاد رجال الأعمال أصدقاء والدي--وربما كانوا هم من فعلوا أولاً بعد أخبار فضيحة والدي. ولكن رغم ذلك هم حضروا جنازته وحاولوا التحدث معي، لكن دون جدوى. كانت تلك آخر مرة أراهم فيها. 

للآن لا يعرف لينك سبب انفصالي الحقيقي عنه، وبعد مدة هو كف عن السؤال. في البداية حاولت التخلص منه كما فعلت مع أصدقائي، لكن لينك لم يتقبل اعتذاري الفارغ ولم يكف عن المحاولة معي؛ هو رأى كم احتجت شخصاً لجانبي في ذلك الوقت وعندما بدأ يتقبل فكرة أنني لن أعود له استقر على كوننا أصدقاء، وهنا بدأنا نخطط في الانتقام. 

شاهدته يعيد تشغيل حاسوبه في شرود. لينكولن فالون من أذكى البشر الذي أعرفهم في حياتي، وهذا ما جذبني له في بداية الأمر. حتى نكاته وغزله كان بطريقة فريدة من نوعها. لا زلت أذكر كيف جعلني أوافق على مواعدته. 

كان يرسل لي جوابات على الطريقة التقليدية، وكل واحد كان أكثر غرابة عن الذي قبله، فلقد كان فارغاً تماماً عدا من عدة ارقام كل مرة. وقد اتخذني الأمر وقتاً حتى استوعبت أنها أرقام عناصر الجدول الدوري للعناصر الكيميائية، وهنا رصصت جميع جواباته بالترتيب وبدأت أترجمها لأخرج بسؤال يطلب فيه مواعدتي. 

وقتها ضحكت بقوة وراسلته عبر الهاتف ان يقابلني، وهنا بدأ كل شئ. لينك كان طالب منحة في مدرستي بنفس السنة الدراسية وهكذا تقابلنا، فقد كنت أنافسه دوماً على أعلى الدرجات، وفي حين أني كنت أفوز عليه في مواد الإدارة والترويج وهكذا هو كان الأفضل في كل ما يخص الحواسيب. 

"ماذا ستفعلين حيال ذلك اذا؟" أخرجني لينك فجأة من أفكاري وهو يكتب شيئاً على حاسوبه بوجه غير مقروء. 

"عن اي شئ تقصد؟ زيلدا أم ما قلته للتو؟" 

"زيريلدا." صحح اسمها في ازدراء لأنه يكره ذلك اللقب الذي أطلقه عليها طلاب الأكاديمية ومرت نظرة غريبة على محياه دون أن يرفع رأسه. "وما قلته للتو." 

"سأكتشف ما علاقة والدي بإدارة الأكاديمية." 

"لينكولن!" صوت أنثوي ظهر فوقنا فجأة لنقفز في صدمة عارمة عندما وجدت أمي تقف على حافة الطاولة بابتسامة واسعة. انتفض قلبي وأنا أمسك بحافة الطاولة لأتماسك أعصابي. "لم أرك منذ وقت طويل! يا الهي انظر إلى نفسك، لا زلت وسيماً كالعادة." 

"ماذا تفعلين هنا؟" خرج سؤالي حاداً عما قصدت ليعطيني لينك نظرة سريعة قبل أن يخفيها وهو يبتسم لوالدتي وينهض. "آنسة ايميليا، كيف أحوالك؟" 

ضحكت أمي في وجهه وجذبته لحضنها. "لما الرسميات؟ ولا تنظري لي هكذا ديانا، لقد كنت أقابل شخصاً في الجوار ولمحتكما وعندما استوعبت أنه عزيزي لينكولن كان لا بد أن ألقي التحية!" فصل لينك العناق أولاً وتراجع وعلى محياه نفس الابتسامة المحترمة. لم يكن من المفترض بها أن ترانا. لم يكن من المفترض بأحد أن يعلم بتواصلنا وهذا ما أكدته عندما أضافت ايميليا: "لم أكن أعلم أنكما لا زلتما على تواصل، ديانا لما لم تخبريني؟ ألم تنفصلا عن بعض؟" 

"هذا صحيح، ايميليا." أكّد لينك وهو يغلق حاسوبه ويضعه في حقيبته، على استعداد للرحيل. مما كان جيداً، فقد كان هذا غير مخطط له، ولا أعلم لما اقلقني ذلك. "لقد قابلت ديانا صدفةً منذ مدة وقد اصررت على ان نتقابل في مرة ونجلس سوياً لتخبرني عن اخر الاخبار." 

"وها أنتما!" سعادة أمي بأنني عدت أتواصل مع شخص من حياتي القديمة كانت لا توصف. ربما هي تظن أنني قد استغله حتى يساعدنا في ضائقتنا وهذا جعلني أبسط شفتاي وألتقط حقيبة يدي وهاتفي. 

"ها نحن." كررت ببرود وذهب بصرها نحوي سريعاً. "لما لا نعود للمنزل، أمي؟" 

ارتعشت ابتسامتها عندما وصلتها الرسالة لتحتضن لينك مرة أخيرة. "لا تغب هكذا مجدداً! أعلم أن ابنتي قد تكون عنيدة في بعض الأحيان وترفض العلاقات مع اي احد لكنها لن تعترف انها تفتقد أصدقائها." 

"لنرحل أمي." احتد صوتي ولينك يومئ لها قبل أن يودعنا ويرحل، كل هذا دون أن يقابل نظرتي مرة. 

"ما بالك؟" سألتني أمي بعدما ابتعد وبدأنا طريقنا عائدتان للمنزل. فتحت هاتفي ونظرت للرسالة التي وردتني من لينك في تلك اللحظة. 

"لا شئ. كنا سنرحل قبل أن تأتي أصلاً." رددت وهي لم تسألني مجدداً. قرأت رسالة لينك: 

لقد كانت والدتك تقابل ديرن.

 

♪♪

 


"استحواذ جديد من قبل رجل الأعمال البريطاني
آلن رويال لتقفز أسهم شركته مجدداً ويستمر الرئيس التنفيذي رويال بالصعود حتى---" 

"منذ متى وأنتِ مهتمة بقنوات أخبار المشاهير؟" ظهرت أمي خلف أريكة غرفة المعيشة لأسارع بتغيير القناة والتوقف على قناة أخبار سياسية. لقد كنت على وشك رؤية وجه الرجل أخيراً قبل ظهورها.

"لستُ مهتمة. بل تعثرت بها وأنا ضجرة وجلست أتابع." 

تركت أمي مكانها وجلست على الطرف الآخر من الأريكة. "أهذا بسبب هؤلاء الأطفال في الأكاديمية؟ لأن عائلاتهم مشهورة أيضاً؟" 

ضحكة باردة تركتني قبل أن أمنعها. "أيضاً؟ متى ستستيقظين أمي وتري أن أيام إيميليا آركان المجيدة قد ولت؟" 

سقطت ملامح أمي وغلفها الحزن. "لا تقولي هذا. لا نحتاج المال من أجل المجد، ديانا. أنسيتي ما علمكِ إياه والدك؟ المال لا يصنع للإنسان أهمية إن لم يكن الإنسان مهماً من البداية."

"كلام أبي لم ينقذه، إيميليا."

"ماذا حدث لكِ؟" سألت أمي في صدمة وهي تنظر لي من أعلاي لأخمصي وكأنها لا تعرف من أكون. 

انتفضت من نومتي على الأريكة وقابلتها: "ماذا حدث لي؟ ماذا حدث لي؟! هل أنتِ جادة؟"

"ديان—" 

"كلا! أنتِ تقومين بذلك كل مرة. تستخفين بما حدث وكأنه لم يكن! وكأن ذلك لم ينهي حياتي ويجعلني أقف أمامكِ الآن في جسد خاوي الروح! أنا لم أعد طبيعية، أمي. أنا أخاف طيلة الوقت من خيال مَن حولي وكأنهم سينقضّون علي في أية لحظة. لم أعد أثق بمخلوق بعد أن باعنا الكل بعد حادثة أبي وشركته!" 

"وأتظنين أن هذا لا يقتلني؟ رؤيتك تموتين يوماً بعد يوم وأنتِ لا تزالين تلفظين أنفاسك؟!" 

"هلا توقفت عن التظاهر؟" 

هذا أوقفها. "ماذا تعنين؟" 

أخذتُ أنفاسي قبل أن أقابلها بنظرة قوية. "هل أنتِ على علاقة مع ديرن؟"

هوى كفها على خدي ورغم كوني أتوقعه لم أوقفها بل استقبلته بصدر ضيق وأنا أقرأ النظرة التي عبرت مقلتيها قبل أن ترفع يدها. لسعة خدي لم تقارن بالشعور الذي انفجر داخلي. "أنتِ ستتزوجينه." 

"ديانا..." 

لم أحس بجسدي وهو يحركني لأنهض لتنهض أمي خلفي وتسرع خلفي بعدما وصلت للباب. "ديانا انتظري!" 

استدرت لها. "كيف أمكنكِ فعل ذلك بي؟" 

"هو ليس الفاعل، ديان---" 

"لكنه ابتسم فوق قبر أبي!" دوت صرختي في أرجاء المنزل ومن علوّها جفلت أمي وتراجعت للوراء. كانت أنفاسي متدافعة ونحن نحدق ببعض حتى هززي رأسي وتجاهلتها وتجاهلت الدموع التي تجمعت بعيناي وبدأت أرتدي حذائي تحت تحديق أمي الصامت. 

لم يكن حتى فتحت الباب وخطوت أول خطوة خارج المنزل أن أوقفتني: "انتظري،" 

وقد انتظرت. ظهري لها وأنا أنتظر سماع الكلمات التي من المفترض بها قولها حتى قالت أخيراً بعد دقائق من التزامها الصمت هامسةً: "إنها تمطر." 

كان بامكاني سماع صوت تهشّم قلبي. هربني نفس غير مصدق وابتسامة حزينة اعتلت شفتاي وأنا أقاوم دموعي على سماع كلمات كان من المفترض بي سماع غيرها لأدير رأسي وأنظر لها وأنا أعطيها كلمات تحطم قلبها هو الآخر قبل أن أترك المنزل:

"أحياناً أتمنى لو أنكِ من مات مكانه."


♪♪♪


المطر كان غاضباً على حسابي وهو يضرب أوصالي وأنا أخطو تحته في ظلام الليل. لم أعلم لأين أذهب سوى أنني أردت الإبتعاد عن المكان بأي طريقة. ولذلك ظللت أمشي وأمشي حتى توقفت تحت الأضواء اللامعة واللافتة الجديدة التي تغيظني. اللافتة التي كان يفخر بها والدي وهي تحمل اسمه الآن تحمل اسم شخص آخر. شخص خانه وتريد أمي التحالف معه. مقر شركة آركان الرئيسي الذي اعتدت التردد عليه منذ تعلّمت المشي الآن ينتمي لشخص غيري وغير عائلتي. وكيف لي أن أسترده؟ كيف لي أن أبرّئ اسم والدي الذي بدل أن يموت ويحزن عليه العالم تم سب ولعن اسمه وجثته لا تزال باردة وكأن قتله كانت العدالة التي استحقها.

كيف لي أن أقوم بشئ من بعدك أبي؟ كيف لي أن أنتقم لك والعالم كله ضدي؟ لقد انقسم ظهري من بعد رحيلك ولا أستطيع الوقوف مستقيمة. 

كم أكره عجزي ذلك. ربما أُظهر الثقة لكل من حولي لكن يظل ذلك التردد ينهش أطراف عقلي يخبرني أني لستُ أمتلك القوة الكافية لهدم العالم الذي هدمني. أظل أفكر إن كنت على الطريق الصحيح وأني لستُ أسير درباً ليس دربي. 

كم تعيسٌ هو شعور الضياع. 

رفعت هاتفي بعد الضغظ على اسمه دون تفكير وانتظرت سماع صوته وأنا أحدق بالاسم المضيء الضخم حتى كان صوته الأجش المتفاجئ: "ديانا؟"

وأنا التي ظننته سيكون متحاذقاً لكوني أتصل به لأول مرة لكن لا بد أن الفعل كان غريباً لدرجة فاجئته كما فاجئتني. 

"كيف تفعل هذا؟" 

عم الصمت الطرف الآخر مباشرةً حتى سمعت صوت خربشة وحركة وكأنه يعتدل في جلسته. "ما بال هذا السؤال؟ هل هذه لعبة من ألاعيبك؟" 

أغمضت عيناي وابتلع المطر دمعتي الأولى. "انسى الأمر، رويال." ثم أغلقت المكالمة. 

بعدها هو عاود الإتصال لأغلق الهاتف وأستكمل السير حتى وصلت للحديقة التي يطل عليها مكتب المدير التنفيذي للشركة والتي اعتدت التحديق بها من نوافذ ممتدة من الأرض إلى الحائط في ذلك المكتب طوال حياتي. على غير عادتها كانت الحديقة خالية بسبب المطر عدا من محبي المطر والأزواج الذين يستمتعون بالمطر الغزير تحت مظلاتهم. جلست على إحدى المقاعد العامة وشاهدت المطر يمتزج مع ظلام الليل ويمسح ألوان الحديقة البريقة وكأن السماء تخبرني الفرق بين حياتي كما أتذكرها والآن كبير وأنه لا مجال للعودة لذلك الجمال وتلك الألوان بعد الآن حتى إن خطوت لها مسافات تدمي لها قدمي. 

لا أعلم كم مر من الوقت وأنا على هذا الحال والمطر يبكي بدلاً عني ولكن الوقت قد تأخر لأن الناس بدأوا يتركون الحديقة منذ مدة حتى لو يتبق شخص سواي. 

"ديانا؟!" تناهى إلى مسامعي الهتاف باسمي ليتصلب كتفاي في صدمة قبل أن أدير رأسي باتجاه الصوت. 

لكن مجال رؤيتي كان ضبابياً ولم أستطع رؤية شئ من المطر الغزير. وعندما مرت دقيقة دون جدوى هبط كتفاي وأنا أصدق أنني قد تخيلت الصوت بسبب ضجيج المطر المشتدّ حتى سمعتها مجدداً وأوضح: "ديانا!"

"رويال؟" همست وأنا أستقيم.

ظهرت هيئته المسرعة في مجال بصري أخيراً لأره وهو يعدو تحت المطر وفي يده مظلة تغطيه. لكن صدمتي كانت عارمة أنني ظللت واقفة حتى وصل لمقعد الحديقة وأصبح أمامي. توقف وأخذ يلتقط أنفاسه وأنا أحدق به في جمود وبعد ملابسه مبتلة وهو يأخذ أنفاسه ومقدمة شعره الأشقر ملتصقة بجبهته ووكأنه كان يعدو منذ مدة.
 

"ماذا تفعل هنا؟" 

"هل جننتِ؟" صرخ في وهو يندفع ليغطيني بالمظلة عندما رفع رأسه ونظر لحالتي. شعري القصير يلتصق بوجهي ولا بد وأن شفتاي زرقاوتان من الجلوس تحت المطر طويلاً. لكني لم أشعر بشئ. لم أشعر ببرودة المطر الذي أغرق ملابسي بالكامل ولا بد أنه يرى كم كانت حالتي مزرية لأنه لعن وهو يسرع بسحب شئ من جيب بنطاله قبل أن يمسح على وجهي بسرعة لأستوعب أنه يجففني بمنديل. 

انتشلته من يده. "كيف عرفت مكاني؟" لا زال صوتي منخفضاً ولا أعلم إن لم يسمعه من المطر أم يتجاهلني لأنه فقط سحب منديلاً آخر وعاود يمسح آثار المطر من رقبتي ووجهي. 

"منذ متى وأنتِ هنا؟" سألني بغضب وهو يمسح ويبعد شعري المبتل عن عيناي وأنا أتركه لكوني مشغولة بالتحديق به. "لا تقولي أنه منذ اتصلتي بي. يالكِ من غبية." 

"كيف عرفت مكاني؟" 

"لقد تتبعت هاتفك!" صاح عندما نفذ صبره من سؤالي وانتهى من تجفيف وجهي. "التقطت آخر إشارة تركها هاتفك قبل إغلاقك له بالقرب من هنا وظللت أبحث بالأرجاء حتى وجدتك. ارتحتي الآن؟"

تغلبت على صدمتي أخيراً لأضع مسافة بيننا ليتبعني مجدداً بالإقتراب حتى يغطيني بالمظلة. "لمَ؟"
 

نظر لعيناي أخيراً. "لم اتصلتي بي؟"

"هذا ليس من شأنك."

"كفِ عن هذا، بريف وأخبريني بما حدث. لم أنتِ هنا وبهذه الحال؟ ماذا حدث؟"
 

عندما التزمت الصمت نظر حولنا في احباط وزفر قبل أن يعيد نظره عليّ. "حسناً إليكِ ما أظنه. شئ ما حدث ذكركِ بوالدك ولهذا أتيتِ لشركته ولكنكِ حزينة لأنها لم تعد ملكه." 

مجدداً كان الصمت حليفنا بعد تصريحه ما عدا من ضجيج المطر وهو يضرب سقف المظلة. كانت مسابقة التحديق بيننا حادة وهو ينتظر إجابتي على السؤال الذي لم يسأله، لأسأله مجدداً: "لم جئت، أليكساندر؟"

كانت نظرته كلها تحدي. "لنفس السبب الذي جعلك تتصلي بي." 

عندما استرخى كتفاي لانت عيناه وفاجئني عندما رفع يده الخاوية من المظلة وجلبها لشعري. أبعد شعري عن عيناي قبل أن يبدأ في التمليس على شعري وهو يرجعه خلف أذني. وقفت أشاهده بينما عيناه البنية تتنقل بين مقلتاي وتبحث في وجهي.

"لما تستمر بلمسي دون إذني؟" همست السؤال. ولما لا يستجيب عقلي ويهلع؟

استمر بالتمليس على شعري برفق وشعرت بالدموع تهدد بالإفصاح عن مكانها لأبتلع الغصة التي تكونت بحلقي. "لأنني أشعر عندما تكوني مطمئنة مني كفاية لأستطع لمسك."

أغلقت عيناي لأتوقف عن رؤية تلك النظرة في عينيه قبل أن أصدقها. عقلي كان يخبرني بتركه والرحيل ولكن قدماي رفضتا الحراك. "ما عدتُ أريد العودة إلى البيت كل إجازة." أخبرته بصوت منخفض لأشعر بأنفاسه تداعب وجنتي عندما مال ليستطيع سماعي. "لكن الى أين سأذهب؟"
 

فتحت عيناي وتوقفت أصابعه عن الحركة قبل أن يخفض يده ونظرت له. "لماذا رحل وتركني وحدي؟"

"لا أظنه أراد تركك."
 

تملك الألم من صدري وهرب مني صوت منتحب. كم كان محقاً. "لقد حارب بكل ما لديه يا أليكساندر."

"أعلم أعلم." عادت يده تمسح على شعري وصوته أصبح ليناً. "من لن يفعل؟ لا أظن أحداً سيود ترك شخص ثمين مثلك."

أخفضت رأسي وأطلقت العنان لنفس طويل خرجت معه همومي واستمرت أصابعه تمسح على شعري بكل رفق. كانت حركاته هادئة وكأنه يداعب رضيعاً وكل لمسة من إصبعه جلبت القشعريرة لأوصالي. طريقته اللينة تلك كان شيئاً افتقدته منذ سنوات حتى ما عدت أذكر آخر مرة عاملني شخص هكذا. كان والدي، بالطبع، لكني أشعر وكأن مر على ذلك دهر. لقد اعتدت كون ابنة أبي المدللة حتى أن أمي كانت تغار مني في بعض الأحيان من شدة حب والدي لي التي تلخصت في أفعاله دون الحاجة لكلماته.
 

تملكتني رغبة ملحة في البكاء على تذكر لحظاتنا الثمينة معاً والتي بدأت تترك حاجز ذاكرتي مع مرور الأيام لكنني أرفض أن يراني أحد من ذلك المكان الموحش على هذه الحال حتى ولو حالتي الآن ليست أفضل. لكنه عهد قطعته على نفسي بألا يشهدني أحدهم أبكي إلا وأنا ألفظ آخر أنفاسي.

تنهدت في أسى على فكرة نسيان شكل أبي وقبل أن أمعن التفكير في ذلك وأترك العنان لدموعي رفعت رأسي وسألته:

"هل رأيت أخاك؟" 

هبطت غمامة على وجهه في لحظة وتوقفت أصابعه عن العمل. ظلّت يده معلّقة فوق رأسي لحظة قبل أن يخفضها ويعيدها لجوار جسده. أجابني بعد برهة في صوت مظلم: "كلا." 

هذا جعلني أعقد حاجباي. "كيف ذلك؟ لماذا؟" لقد كان متحمساً لرؤيته حتى ولو لم يظهر ذلك.

"عمله أشغله عن السفر من بريطانيا." 

فرغت فاهي لأستفسر عن المزيد عندما لمحت حركة من خلفه بعيدة بين الشجيرات المظلمة. ضيقت بصري وحاولت الرؤية بصورة أوضح ما إذا كنت أتخيل أم لا عندما جمدتني ومضة كاميرا.

"أليكساندر…" تراجعت بعيداً عنه حتى أضع مسافة بيننا بينما عيناي مثبتة على المكان. "هناك شخص يراقبنا." 

لكن أليكساندر لم يلتفت لينظر حيث أنظر، فبصره ظلّ مثبتاً على شئ فوق رأسي حتى رفع يده وأمسك كتفي. "بل شخصان."

 

تعليقات

  1. واخيييييرا 😭❤❤

    ردحذف
    الردود
    1. ممكن بس بارتات 18 19 20 21...

      حذف
  2. العظمة رجعت انا مش قادرة اتكلم عن العظمة اللي قريتها دلوقتي 🤧

    ردحذف
    الردود
    1. ممكن اعرف اذا انتي لقيتي البارتات 18 و19 ،20,21 لوسمحتي

      حذف
  3. اليكس و ديانا ✨✨✨✨

    ردحذف
  4. خوفه عليها و جماله و هو بيجري تحت المطر 😭😭❤️

    ردحذف
  5. يا الهي كم اشتقت لها ،ابداع كعادة وأكثر احسنتي اتمنى الطولي مرة ثانيا بليز ؟

    ردحذف
  6. عظمه بجد🔥 الفصل تحفه وكل الاحداث رهيبه والله اشتقنا 😭♥️♥️♥️

    ردحذف
  7. مب مصدقة😭😭😭😭 آخر البارت لما طلع فيه شخصين يراقبهم جتني فجعة ، وبكذا ننتظر شهرين ثلاثة على ما بال ينزل اللي بعده بس والله تسبيح أسعدتني

    ردحذف
  8. اشتقت حبيت البارت في كمية مشاعر خلتني ابكي

    ردحذف
  9. أشتقت جدا🥺♥️♥️
    الفصل عظمة وحماااس للجاي🔥🔥
    🌚🌚خايفة من أن اليكس بعد كل الفرشات دية يكون مخطط لأنه يروحلها علشان يصورهم أو هو عارف وكمل علشان كدة
    👀دة غالبا علشان يحطوها في القاعة ويكون صورة على قصة الحب اللي لسة مبدأتش أصلا ويارب تبدأ
    المهم اليكس 😭😭♥️♥️
    اشتقت للنوت 💔

    ردحذف
  10. وربيي ارجفففف الفصل يجنن بكل ما تعنيه الكلمة

    ردحذف
  11. اخييراا الفصل يجنن 😭❤❤

    ردحذف
  12. قريب بكيت لما وصلت لنهاية الفصل نتمناها ماتكملش 🥲💔

    ردحذف
  13. واخييييييييييرا حمااااااااااس 🔥🔥🔥

    ردحذف
  14. يمههه بببكي

    ردحذف
  15. مو مصدقه واخييييراااا يارب اخيرا رجعت ابولو

    ردحذف
  16. دمووووععععع يبيلها سجده شكرر

    ردحذف
  17. البارت يجنن لدرجه عيوني دمعت من جماله ومن شوقي 😭😭😭😭

    ردحذف
  18. البارت يجنن بمممموت واخر جزء الكس روحي و قرة عيني بمممموت ولله

    ردحذف
  19. أحبك مرة
    وشكرًا كنت محتاجة لهالفصل وبشدة،
    لرؤية ديانا مع اليكس مرة أخرى

    ردحذف
  20. يا قلبييييي و الله كنت خايفة من الختمة، شو راح يصبرني على الفصل الجاي... تيم أليكس رجعت حماسته في قلبي... اشتقت اشتقت و حبيييييت اللصل كان روعة و طويل و كان متعمق اكثر و
    كأنو تغير شوي سرد تسبيح . لكن حبييييييت
    ان شاء الله الفصل التالي قررييييب و اتمنى انو اليكس ما يفكر في شيء سيء

    ردحذف
    الردود
    1. هل قريتي فصول من18لحد21؟ م لقيتهم

      حذف
  21. البارت رهيييييب وتوقف في لحظة حماااااس

    ردحذف
  22. البارت ياخد عقل جمال ألكس 😭🔥

    ردحذف
  23. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  24. و الشابتر ده يفكرنا بأد ايه احنا سناجل بائسين 🙂

    ردحذف
  25. بموت الرواية وحشتني جامدددد 😢 ♥

    ردحذف
  26. وين النوت 🥺

    ردحذف
  27. الفصل القادم امتى

    ردحذف
  28. روعه ابدااااع بجد حاجه عظمه اليكس وديانا روعه ❤️

    ردحذف
  29. تسبيح كم انتي عظيمة
    كنت في حالة كآبة وفجاة تذكرت ادخل الكروب ارى ما التحديثات واكتشفت انو بارت نازل قبل شهر 🔥😮

    ردحذف
  30. بارتييي حماااس وحزين 😭

    ردحذف
  31. طيب ليش اتصلت عليه ؟

    ردحذف
  32. اتفهم انه ديانا ماتثق بأمها بس ما فهمت بخصوص انها ما بدها تعرف انها تتواصل مع لينكولن، يعني هذي مو قضية انعدام ثقة بها فقط وانما شيء اخر اتوقع، متلا... اوك اولا هي ديانا ما تثق بأمها واضافة اظن تشك بها و ايضا بدها تخفي علاقتها بلينكولن على الاكاديمية بالخصوص. هذا يعني انه ديانا تشك بأمها من ناحية انه لها علاقه بالأكاديميه او فقط انها توصل هذا الشي لها؟ المهم ديانا تشك بأمها وهذا منيح جدا لانه احس انه فعلا امها رح يطلع بالنهايه شي كبير من وراها كونها شخص مريب حقا
    #كلاون

    ردحذف
  33. مو قادرة القى التشابرات من ١٨-٢٣

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

٢٩ I الغابة

29 "الغابة" وقفت   متسمرة مكاني لدقائق عاجزة عن الكلام، أحدق بظهر أليكساندر والصمت حليفنا. حتى تحرك فجأة صوب الحمام المفتوح وهو يخلع قميصه. توسعت عيناي على ظهره العاري ولكنه توجه للحوض وعيناه علي من خلال المرآة وبدأ يمسح بعنف على صدره. “ ماذا تفعل؟ ”   بدلاً من أن يجيب هو استمر بالفرك في عدة أماكن مختلفة بقميصه ثم استدار. لم أكن مستعدة لما قابلني، وعندما أغلق الصنبور وخطا لي تراجعت للوراء. “ ولآخرة مرة سأقولها، ديانا آركان، وهو أنكِ الوحيدة التي لا تملك ما تخسره. ولذلك نحن لا نساعدك ولا نجيبك ونتظاهر بالجهل. لقد  سئمت. ”   استطرد واستمر بالتقدم وصدره المشوه يحدق بي. كان يختاجلني شعور غريب لم أفهمه وأنا لا أستطيع رفع بصري عن الحروق والكدمات التي ملأت أركاناً كثيرة من جسده. “ سئمت منهم ومن التنقيب عن الأسرار والأهم من ذلك سئمت من نفسي. هم يتحكمون بي وكأنني دمية معلقة بخيوط وأنا أشعر بأني محاصر. أنتِ لا تودين العبور لناحيتنا. ” تجاهلت جملته الأخيرة. “ إنهم يهددونك بنقطة ضعفك. ” ابتسم ابتسامة ساخرة ولكن بائسة. “ والمثير للضحك في الأمر أنني نفسي لم أكتشف ما هي نقطة ضعفي س...

٢٨ I رويال

  28 "رويال"   "هيا الكمها." بدأت أول دمعة تترك عين الطفل ذات الخمس سنوات. لم يبك عندما كان يبرحه والده ضرباً بل بكى على هذا الأمر. هز رأسه مراراً وتكراراً ليهوى كف الأب على وجهه بقوة. ارتمى الصغير على الأرض مباشرةً. "تعلّم أن تتحكم بمشاعرك أيها الوغد! هيا اضربها!" رفع الصغير رأسه ونظر لوالده من بين دموعه. "لكنها أمي..." "إنها ليست سوى المرأة التي جلبتك لهذه الحياة. إياك وأن تحمل لها أهمية في قلبك. ألم تقل أنك تكره حياتك؟ انتقم منها إذاً!" "كلا كلا كلا..." شهق الصبي في البكاء وبدأ ينتحب عندما نهضت أمه من مكانه ليهدأ فوراً وهو يشاهدها تقترب. لقد ظن أنهما سيتركاه الآن لكن الأم توقفت أمامه وأعطته نظرة خائبة. توسعت عيناه عندما انغلقت قبضتها الحادة حول شعره ثم بدأت تسحبه خلفها على البلاط. "كم أنت ضعيف. يالك من وغد مثير للشفقة." استمرت بسحبه خلفها ودمعت عينا الصبي أكثر من الألم الذي يحرق فروة رأسه وهو يحاول مقاومتها وإبعاد يدها. "أمي! أمي ماذا تفعلين؟" كانت أول مرة تتدخل والدته في تأديبات وا...

١٧ I هيبتا

  ١٧ هيبتا   داخل غرفة مكتب بالأكاديمية .   يدها صفعت الخشب بقوة وعيناها تطلق الشرار نحوه. لكنه لم يرمش واستمر بالنظر إليها بهدوء شديد؛ يعلم أنها لن تفعل له شئ .    يعلم أنها تخاف منه لا العكس .   " كيف أمكنك أن تكون بهذا الغباء؟ أخبرتك ألا تقترب منها! ألا تجعلها تلحظك، ألا تضع نفسك في بالها، لكن لا، كان عليك الإرتجال والتصرف بنفسك ومحاولة مصادقتها !"    يديه ارتفعا لرقبته وقام بطرقعتها، في ضجر تام. "وما هي وجهة نظرك؟ "    هي كانت تغلي، ذلك المدلل كان يفسد كل شئ. لقد فعلها مرة وسوف يكررها ثانية. استدارت حول المكتب ومالت على كرسيّه. "أريدك أن تبتعد عنها. لا مزيد من محاولة الإقتراب منها، هي تشك بك بالفعل ."    فجأة هو مال للأمام، عيناه تلمع بغضب مكتوم. "هي، تشك بالجميع وأنا لست استثناءً. أنتِ لا تفهمين شيئاً. تريدين إنتقامك: تتركيني أتصرف. أنا وسيلتك الوحيدة لتدميرها ."    التوت شفتاها وهي تستقيم وتحدق بالشاب أمامها. هزت رأسها وعادت لمقعدها في هدوء. "كل شئ سيسير حسب مجرى الأحداث. ما عدا إض...